تقيم عقولنا البشرية ملفات ارتباط عدة، ربما اتخذت منها ملفات الارتباط الإلكترونية التي باتت تدعمها الشبكة العنكبوتية الإنترنت، وإليكم مثال بسيط، عندما أحدثكم «سافرت مع صديقتي مريم إلى الهند، فشاهدت تاج محل، وزرت بعضاً من المعابد هناك، وعند تجولنا في الأسواق راق لي «الساري» الهندي فاشتريت واحداً، بينما اختارت صديقتي أن تأخذ مرآة الطاووس المعروفة لتهديها لوالدتها، وكان يمكنني أن أفصل هذا الحديث وأقسمه لمجموعة من الأحاديث غير المنتهية، كأن أحدثكم عن صديقتي مريم وكيف التقيت بها وتطورت علاقتنا، وعن ظروف مريم وشخصيتها ومعلومات كثيرة حولها، وكذلك يمكنني أن أتناول تاج محل بالحديث، فأتناول تاريخه وتصميمه وموقعه الجغرافي وزواره وكثيراً من التفاصيل الأخرى، وكذلك الحديث عن المعابد الذي سيجر بدوره للحديث عن الأديان في الهند، و»الساري» سيجرنا إلى تاريخه وأصله وتصاميمه وإذا كان هناك ثمة اختلاف بين تصاميمه لكل مناسبة أو لكل منطقة، وكذلك مرآة الطاووس. ولن أكون أدليت بجديد عندما أشير إلى أن كل موضوع تفصيلي سأتناوله ستنبثق منه مجموعة من الموضوعات التفصيلية الأخرى، التي ستجر إلى مواضيع أخرى وأخرى وهكذا.

غريب هو أمر الدماغ البشري، كيف يحتوي هذا الكم الهائل من المعلومات ويحفظها لحين الحاجة لاستدعائها، ولكن يبقى أن العقل البشري لا يستدعي في روابطه المقامة إلاَّ ما تم حفظها فيه، فما نحتفظ به من معلومات هو خلاصة ثقافتنا ودراستنا وتجاربنا وخبراتنا المختلفة، التي تشكل في مجموعها رصيد ذكرياتنا الضخم وسجله الهائل. غير أن الشبكة العنكبوتية تكمن قوتها في أنها تجمع خلاصات العقول والتجارب والأبحاث والأحاديث والصور والتسجيلات وكل شيء، ما يجعلها واسعة جداً وتتجاوز حدود خبراتنا الشخصية.

الفيلم البريطاني «Anon» تعرض إلى هذا الجانب على نحو مذهل، وكأن الدماغ البشري من خلال امتداد ملفاته الارتباطية موصول بالإنترنت، وهو أمر قد لا يكون بعيداً، ولكن مع خاصية اختراق العقول وتصفح ذكرياتها، يبدو الأمر أكثر تعقيداً وإيغالاً في الخصوصيات من الإنترنت -بحسب ما نظن أحياناً- رغم أن الإنترنت لم يبقِ من خصوصيتنا ولم يذر. ما تناوله الفيلم هو الدخول لملفات ارتباط عدة من خلال دخوله لتصفح ذكريات شخص واحد قد يكون معلوماً لديه، ولن أقدم أمثلة خاصة بل سأورد ما قدمه الفيلم حيث دخل أحدهم لملفات ذكريات إحدى زميلاته حدثته عن فقدان ساعتها الثمينة التي وضعتها آخر مرة على مغسلة في منزلها، فقام ذلك الزميل بالتحقق مما قالته عبر ملف ذكرياتها وتبين أنها صادقة، ولكنه أيضاً من خلال معرفتها واتصالها الذهني بالخادمة في منزلها، تمكن ببساطة -ومن دون أن تدري زميلته- من دخول سجل ذكريات الخادمة ليتحقق أنها فعلاً من أخذ تلك الساعة، ولكنه أيضاً رأى في سجل ذكرياتها أنها أخذت الساعة إلى السوق وباعتها لإحدى محلات الساعات، وأنها ذهبت لتسدد بها إيجار مسكنها الخاص الذي يقطن فيه عيالها».

* اختلاج النبض:

إن الحاجة لتحصين الأفكار لم تعد تقتصر على الناس من حولنا أو أولئك الذين تجمعنا بهم علاقات وروابط معينة، بل من خلال سلسلة من المعارف والوسطاء الآخرين بعلمهم أو دونه، ما يجعلنا مكشوفين كلياً أمام العالم..!!