من غرائب الأمور أن في بعض دول البؤس تستقي خطب الساسة مفرداتها من وثائق ودراسات البنك الدولي لإرهاق مواطنيهم بالأكلاف المالية، لكن ذلك التنميق اللفظي لم يخرجهم من صورة جباة الضرائب في القرون الوسطي أو جامعي إتاوات الإقطاع لتصب في النهاية في جيوبهم أو جيوب الدولة العميقة التي تحركهم، لكن نفس الساسة لم يلتفتوا يوماً لتعريف البنك الدولي لمفاهيم راقية كمفهوم الحكم الرشيد وهو الطريقة التي تباشر بها السلطة إدارة الدولة لتحقيق التنمية، كما لم يلتفتوا للحوكمة وهي الأدوات التي تطبق للوصول للحكم الرشيد كمكافحة الفساد واستغلال السلطة عبر الشفافية، والمسؤولية، والمحاسبة.

لقد خرج العراقيون واللبنانيون في تظاهرات جماهيرية كبيرة احتجاجاً على غياب الحوكمة كمراقب يؤدي للحكم الرشيد، وعلى استشراء الفساد والبطالة وسوء الخدمات العامة. وكان من المثير أن هذه المظاهرات قد قامت بدور المضاد الحيوي الذي دخل لشفاء جسد المجتمع من الفساد فشفى المجتمعات المنتفضة من أمراض عدة أخرى، كما كان محفزاً لجسد المجتمع لإظهار قدرات كانت في طور الخمول لفترات طويلة. لله در الفساد فقد كانت الحرب عليه من قبل العراقيين واللبنانيين في الشوارع والساحات دافعاً لاختفاء الكتل السياسية التي عادة ما تقود التظاهرات لمصالحها الخاصة، فحتى الآن يمكننا القول بجماهيرية الحراك في البلدين، حتى إن ممثلي الأحزاب والكتل لم يجسروا على الخروج من جحورهم. أما الأمر الثاني فهو أن محاربة الفساد بالتظاهر كانت مقسمة بعدل بين فئات المجتمع طائفياً وعنصرياً بل وحتى طبقياً بعد أن تضرر الجميع من فساد السلطة التنفيذية والتشريعية. أما ثالث الفوائد من بروز رأس الفساد بحدة مما جعله طريدة للجماهير فهو بروز الصراع بين الساسة الفاسدين أنفسهم، وحيرتهم في تعاطي الأزمة فهناك من يهدئ الجماهير ويستدرجها بشعارات فارغة كالقول أوقفوا المظاهرات لأن علاج السرطان لا يتم بحبة أسبرين، فيرد عليه سياسي آخر واصفاً إياه بالارتباك فالتعاطف مع المتظاهرين ممنوع وكل من يتعاطف معهم من السلطة التنفيذية أو التشريعية مصاب بمتلازمة ستوكهولم ومعناها أن الضحية تصبح متعاطفة مع جلادها، وكأن الجماهير هي الظالمة والطبقة السياسية هي الضحية، من باب أن كل ما قام به الساسة كان فساداً مشرعاً دستورياً.

بقي أن نشير إلى أن الفساد جزء من جينات المكون الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في العالم، فالمظاهرات العربية الراهنة ضد الفساد لا جدوى منها على المدى الطويل إن لم تحقق حرية الفرد، وبناء نظام سياسي مرن ومفتوح، وتحسين ظروف حياة الناس. فكثير من التغيرات في دول العالم لم تَبْنِ نظاماً ناجحاً على المدى البعيد، بل خلقت تشريعات للفاسدين لكي تبقيهم دينامياتها خارج قيود الحكم الرشيد.

* بالعجمي الفصيح:

الفساد سببه غياب الحوكمة كمراقب يؤدي للحكم الرشيد، وربما حان الوقت لإضافة الحوكمة والحكم الرشيد إلى منظومة القيم التي نجربها في أوطاننا بعد استيرادها، فنجح بعضها وأخفقنا في تطبيق البعض الآخر كالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية.

* كاتب وأكاديمي كويتي